الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى، لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة، والفِرْية على الله تعالى، فأما اليهود فقالوا في العُزَير: "إنه ابن الله"، تعالى [الله] عن ذلك علوا كبيرا. وذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك، أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل، فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم، بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم، حتى سقطت جفون عينيه، فبينا هو ذات يوم إذ مَرّ على جبانة، وإذ امرأة تبكي عند قبر وهي تقول: وامطعماه! واكاسياه! [فقال لها ويحك] من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت: الله. قال: فإن الله حي لا يموت! قالت: يا عزير فمن كان يُعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله. قالت: فلم تبكي عليهم؟ فعرف أنه شيء قد وُعظ به. ثم قيل له: اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه، وصَلِّ هناك ركعتين، فإنك ستلقى هناك شيخا، فما أطعمك فكله. فذهب ففعل ما أمر به، فإذا شيخ فقال له: افتح فمك. ففتح فمه. فألقى فيه شيئًا كهيئة الجمرة العظيمة، ثلاث مرات، فرجع عُزَير وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال: يا بني إسرائيل، قد جئتكم بالتوراة. فقالوا: يا عُزَير، ما كنت كَذَّابا. فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما، وكتب التوراة بإصبعه كلها، فلما تراجع الناس من عَدُوّهم ورجع العلماء، وأخبروا بشأن عزير، فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال، وقابلوها بها، فوجدوا ما جاء به صحيحا، فقال بعض جهلتهم: إنما صنع هذا لأنه ابن الله. وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم، {يضاهئون} أي: يشابهون {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل هؤلاء، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} وقال ابن عباس: لعنهم الله، {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}؟ أي: كيف يضلون عن الحق، وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل؟ [وقوله] {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} روى الإمام أحمد، والترمذي، وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم، رضي الله عنه، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان قد تنصر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثمَّ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم عَدِيّ المدينة، وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدَّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم. فقال: "بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي، ما تقول؟ أيُفرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ ما يُفرك؟ أيفرّك أن يقال لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله إلا الله"؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم، وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم قال: "إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون" وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وغيرهما في تفسير: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. وقال السدي: استنصحوا الرجال، وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي: الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله حل، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ. {لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} يقول تعالى: يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب {أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} أي: ما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق، بمجرد جدالهم وافترائهم، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس، أو نور القمر بنفخه، وهذا لا سبيل إليه، فكذلك ما أرسل الله به رسوله لا بد أن يتم ويظهر؛ ولهذا قال تعالى مقابلا لهم فيما راموه وأرادوه: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} والكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه، ومنه سمي الليل "كافرا"؛ لأنه يستر الأشياء، والزارع كافرا؛ لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] ثم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} فالهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة، والإيمان الصحيح، والعلم النافع -ودين الحق: هي الأعمال [الصالحة] الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله زَوَى لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها" وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن محمد بن أبي يعقوب: سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قَبِيصة -أو: قبيصة بن مسعود -يقول: صلى هذا الحي من "مُحَارب" الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة" وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا سليم بن عامر، عن تميم الداري، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله هذا الدين، بعِزِّ عزيز، أو بِذُلِّ ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر"، فكان تميم الداري يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرَ والشرفَ والعزَّ، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني ابن جابر، سمعت سليم بن عامر قال: سمعت المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى على وجه الأرض بيت مَدَر ولا وَبَر، إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعزِّ عزيز، أو بذلِّ ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، وإما يذلهم فيدينون لها" وفي المسند أيضا: حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي حذيفة، عن عدي بن حاتم سمعه يقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عدي، أسلم تسلم". فقلت: إني من أهل دين. قال: "أنا أعلم بدينك منك". فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: "نعم، ألست من الرَّكُوسِيَّة، وأنت تأكل مرباع قومك؟". قلت: بلى. قال: "فإن هذا لا يحل لك في دينك". قال: فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال: "أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضَعَفَةُ الناس ومن لا قوة له، وقد رَمَتْهم العرب، أتعرف الحيرة؟" قلت: لم أرها، وقد سمعت بها. قال: "فوالذي نفسي بيده، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظَّعِينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كسرى بن هرمز؟. قال: "نعم، كسرى بن هرمز، وليُبْذَلنَّ المال حتى لا يقبله أحد". قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها. وقال مسلم: حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرّقَاشِيّ، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يذهب الليل والنهار حتى تُعْبَد اللاتُ والعُزّى". فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله، عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أن ذلك تام، قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، عز وجل، ثم يبعث الله ريحا طيبة [فيتوفى كلّ من كان في قلبه مثقال حَبَّة خردل من إيمان] فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم"
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} قال السدي: الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى. وهو كما قال، فإن الأحبار هم علماء اليهود، كما قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} [المائدة: 63] والرهبان: عباد النصارى، والقسيسون: علماؤهم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] والمقصود: التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى. وفي الحديث الصحيح: "لتركبنّ سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة بالقُذّة". قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟". وفي رواية: فارس والروم؟ قال: "وَمَن الناس إلا هؤلاء؟" والحاصل التحذير من التشبه بهم في أحوالهم وأقوالهم؛ ولهذا قال تعالى: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس، يأكلون أموالهم بذلك، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خَرْج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله، صلوات الله وسلامه عليه استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم، طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات، فأطفأها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها، وعوضهم بالذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله. وقوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق، ويُلبسون الحق بالباطل، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير، وليسوا كما يزعمون، بل هم دعاة إلى النار، ويوم القيامة لا ينصرون. وقوله: {وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هؤلاء هم القسم الثالث من رءوس الناس، فإن الناس عالة على العلماء، وعلى العُبَّاد، وعلى أرباب الأموال، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس، كما قال بعضهم وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ *** وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها؟ وأما الكنز فقال مالك، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. وروى الثوري وغيره عن عُبَيد الله عن نافع، عن ابن عمر قال: ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز وقد رُوي هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا وعمر بن الخطاب، نحوه، رضي الله عنهم: "أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض". وروى البخاري من حديث الزهري، عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر، فقال: هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت جعلها الله طُهرًا للأموال. وكذا قال عمر بن عبد العزيز، وعراك بن مالك: نسخها قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 103] وقال سعيد بن محمد بن زياد، عن أبي أمامة أنه قال: حلية السيوف من الكنز ما أحدثكم إلا ما سمعت. وقال الثوري، عن أبي حصين، عن أبي الضُّحَى، عن جَعْدَة بن هبيرة، عن علي، رضي الله عنه، قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، فما كان أكثر منه فهو كنز. وهذا غريب. وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما، أحاديث كثيرة؛ ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي، فقال عبد الرازق: أخبرنا الثوري، أخبرني أبو حصين، عن أبي الضحى، بن جعدة بن هبيرة، عن علي، رضي الله عنه، في قوله: {وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبّا للذهب، تَبّا للفضة" يقولها ثلاثا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال: عمر، رضي الله عنه، أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا رسول الله، إن أصحابك قد شق عليهم [و] قالوا: فأيَّ مال نتخذ؟ قال: "لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه". حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني سالم، حدثني عبد الله بن أبي الهُذَيْل، حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تبا للذهب والفضة". قال: فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، قولك: "تبا للذهب والفضة"، ماذا ندخر؟. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تُعين على الآخرة"حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل قالوا: فأي المال نتخذ؟ قال [عمر: أنا أعلم ذلك لكم فأوضع على بعير فأدركه، وأنا في أثره، فقال: يا رسول الله، أي المال نتخذ؟ قال] ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم في أمر الآخرة". ورواه الترمذي، وابن ماجه، من غير وجه، عن سالم بن أبي الجعد وقال الترمذي: حسن، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان. قلت: ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم. حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حميد بن مالك، حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي، حدثنا أبي، حدثنا غَيْلان بن جامع المحاربي، عن عثمان أبي اليقظان، عن جعفر بن إياس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية، كَبُر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده ما لا يبقى بعده. فقال عمر: أنا أفرِّج عنكم. فانطلق عمر واتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبيَّ الله، إنه قد كَبُر على أصحابك هذه الآية. فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم". قال: فكبَّر عمر، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته". ورواه أبو داود، والحاكم في مستدركه، وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى، به وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، ولم يخرجاه. حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس، رضي الله عنه، في سفر، فنزل منزلا فقال لغلامه: ائتنا بالشَّفْرَةِ نعْبَث بها. فأنكرت عليه، فقال: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخْطمُها وأزمُّها غير كلمتي هذه، فلا تحفظونها علي، واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم، إنى أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب". وقوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ} أي: يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما، كما في قوله: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 48، 49] أي: هذا بذاك، وهو الذي كنتم تكنزون لأنفسكم؛ ولهذا يقال: من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله، عذب به. وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم، عذبوا بها، كما كان أبو لهب، لعنه الله، جاهدًا في عداوة الرسول، صلوات الله [وسلامه] عليه وامرأته تعينه في ذلك، كانت يوم القيامة عونًا على عذابه أيضا {فِي جِيدِهَا} أي: [في] عنقها {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 5] أي: تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه -كان -في الدنيا، كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها، كانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة، فيحمى عليها في نار جهنم، وناهيك بحرها، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. قال سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود: والله الذي لا إله غيره، لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارًا، ولا درهم درهما، ولكن يوسَّع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته. وقد رواه ابن مرْدُويه، عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح رفعه، والله أعلم. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه، وهو يفر منه ويقول: أنا كنزك! لا يدرك منه شيئا إلا أخذه. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن مَعْدَان بن أبي طلحة، عن ثوبان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من ترك بعده كنزا مَثَل له يوم القيامة شُجاعًا أقرع له زبيبتَان، يتبعه، يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك! ولا يزال يتبعه حتى يُلقمه يده فَيُقَصْقِصَها ثم يتبعها سائر جسده". ورواه ابن حبان في صحيحه، من حديث يزيد، عن سعيد به وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم، من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل يوم القيامة صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، ثم يَرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" وذكر تمام الحديث. وقال البخاري في تفسير هذه الآية: حدثنا قتيبة، حدثنا جرير، عن حُصَيْن، عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر بالرَّبَذة، فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض، قال كنا بالشام، فقرأت: {وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فقال معاوية: ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل الكتاب. قال: قلت: إنها لفينا وفيهم. ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم، عن حصين، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، رضي الله عنه، فذكره وزاد: فارتفع في ذلك بيني وبينه القول، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليه، قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تَنَحَّ قريبا. قلت: والله لن أدع ما كنت أقول. قلت: كان من مذهب أبي ذر، رضي الله عنه، تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي [الناس] بذلك، ويحثهم عليه، ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، وأنزله بالربذة وحده، وبها مات، رضي الله عنه، في خلافة عثمان. وقد اختبره معاوية، رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله؟ فبعث إليه بألف دينار، ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت، فهات الذهب! فقال: ويحك! إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به. وهكذا روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنها عامة: وقال السدي: هي في أهل القبلة. وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة، فبينا أنا في حلقة فيها مَلأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكانزين برَضْف يحمى عليه في نار جهنم، فيوضع على حَلمة ثَدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل -قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدا منهم رَجَع إليه شيئا -قال: وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: إن هؤلاء لا يعلمون شيئا. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذَرّ: "ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر عليه ثالثة وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين" فهذا -والله أعلم- هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن سعيد بن أبي الحسن، عن عبد الله بن الصامت، رضي الله عنه، أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه ومعه جارية له، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري به فلوسا. قال: قلت: لو ادخرته للحاجة تَنُوبك وللضيف ينزل بك! قال: إن خليلي عهد إليَّ أنْ أيما ذهب أو فضة أوكِي عليه، فهو جمر على صاحبه، حتى يفرغه في سبيل الله، عز وجل. ورواه عن يزيد، عن همام، به وزاد: إفراغا. وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته، عن محمد بن مهدي: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله، عن طلحة بن زيد، عن أبي فَرْوَة الرّهاوي، عن عطاء، عن أبي سعيد، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الق الله فقيرًا ولا تلقه غنيا". قال: يا رسول الله، كيف لي بذلك؟ قال: "ما سُئِلتَ فلا تَمْنَع، وما رُزقْت فلا تَخْبَأ"، قال: يا رسول الله، كيف لي بذلك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو ذاك وإلا فالنار" إسناده ضعيف. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا عتيبة، عن بريد بن أصرم قال: سمعت عليًا، رضي الله عنه، يقول: مات رجل من أهل الصُّفَّة، وترك دينارين -أو: درهمين -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيَّتان، صلوا على صاحبكم" وقد روي هذا من طرف أخر. وقال قتادة، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن أبي أمامة صُدَي بن عَجْلان قال: مات رجل من أهل الصُّفَّة، فوجد في مئزره دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيَّة". ثم تُوفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيتان". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي، حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي، حدثني أرطاة، حدثني أبو عامر الهَوْزَني، سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض، إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن خداش، حدثنا سيف بن محمد الثوري، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يوضع الدينار على الدينار، ولا الدرهم على الدرهم، ولكن يُوَسَّع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" سيف -هذا -كذاب، متروك.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، أخبرنا أيوب، أخبرنا محمد بن سيرين، عن أبي بَكْرَة، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته، فقال: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة [حرم، ثلاثة] متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". ثم قال: "أي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر؟ " قلنا؛ بلى. ثم قال: "أي شهر هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجة؟" قلنا: بلى. ثم قال: "أي بلد هذا؟". قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليست البلدة؟" قلنا: بلى. قال: "فإن دماءكم وأموالكم -قال: وأحسبه قال: وأعراضكم -عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب منكم، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من يسمعه. ورواه البخاري في التفسير وغيره، ومسلم من حديث أيوب، عن محمد -وهو ابن سيرين -عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة، عن أبيه، به. وقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن مَعْمَر، حدثنا روح، حدثنا أشعث، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ورجب مضر بين جمادى وشعبان" ورواه البَزَّار، عن محمد بن معمر، به ثم قال: لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه، وقد رواه ابن عَوْن وقُرَّة، عن ابن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، به. وقال ابن جرير أيضًا: حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، حدثنا زيد بن حُبَاب، حدثنا موسى بن عبيدة الربَذي، حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال: "أيها الناس، إن الزمان قد استدار، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، أولهن رَجَب مضر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم" وروى ابن مَرْدُويه من حديث موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمرو، مثله أو نحوه. وقال حماد بن سلمة: حدثني علي بن زيد، عن أبي حُرّة حدثني الرقاشي، عن عمه -وكانت له صحبة -قال: كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق، أذود الناس عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم" وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو معاوية، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} قال: محرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"، تقرير منه، صَلَوَات الله وسلامه عليه، وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص، ولا نسيء ولا تبديل، كما قال في تحريم مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة"، وهكذا قال هاهنا: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" أي: الأمر اليوم شرعا كما ابتدأ الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض. وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث: إن المراد بقوله: "قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"، أنه اتفق أن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء، يحجون في كثير من السنين، بل أكثرها، في غير ذي الحجة، وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة، وفي هذا نظر، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء. وأغرب منه ما رواه الطبراني، عن بعض السلف، في جملة حديث: أنه اتفق حج المسلمين واليهود والنصارى في يوم واحد، وهو يوم النحر، عام حجة الوداع، والله أعلم.
[حاشية فصل] ذكر الشيخ علم الدين السَّخاوي في جزء جمعه سماه "المشهور في أسماء الأيام والشهور": أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه؛ لأن العرب كانت تتقلب به، فتحله عاما وتحرمه عاما، قال: ويجمع على محرمات، ومحارم، ومحاريم. صفر: سمي بذلك لخلو بيوتهم منه، حين يخرجون للقتال والأسفار، يقال: "صَفِرَ المكان": إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال. شهر ربيع أول: سمي بذلك لارتباعهم فيه. والارتباع الإقامة في عمارة الربع، ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء، وعلى أربعة، كرغيف وأرغفة. ربيع الآخر: كالأول. جمادى: سمي بذلك لجمود الماء فيه. قال: وكانت الشهور في حسابهم لا تدور. وفي هذانظر؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة، ولا بد من دورانها، فلعلهم سموه بذلك، أول ما سمي عند جمود الماء في البرد، كما قال الشاعر: وَلَيلَةٍ منْ جُمادى ذَاتِ أنْدِيَة *** لا يُبْصِرُ العبدُ في ظَلماتها الطُّنُبَا لا يَنْبَحُ الكلبُ فيها غَير وَاحدَةٍ *** حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خُرْطُومه الذَّنَبَا ويُجمع على جُمَاديات، كحبارى وحُبَاريات، وقد يذكر ويؤنث، فيقال: جمادى الأولى والأول، وجمادى الآخر والآخرة. رجب: من الترجيب، وهو التعظيم، ويجمع على أرجاب، ورِجَاب، ورَجَبات. شعبان: من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شَعَابين وشَعْبانات ورمضان: من شدة الرمضاء، وهو الحر، يقال: "رمضت الفصال": إذا عطشت، ويجمع على رَمَضَانات ورَماضين وأرْمِضَة قال: وقول من قال: "إنه اسم من أسماء الله"؛ خطأ لا يعرج عليه، ولا يلتفت إليه. قلت: قد ورد فيه حديث؛ ولكنه ضعيف، وبينته في أول كتاب الصيام. شوال: من شالت الإبل بأذنابها للطراق، قال: ويجمع على شَوَاول وشَوَاويل وشَوَّالات. القعدة: بفتح القاف -قلت: وكسرها -لقعودهم فيه عن القتال والترحال، ويجمع على ذوات القعدة. الحجة: بكسر الحاء -قلت: وفتحها -سمي بذلك لإيقاعهم الحج فيه، ويجمع على ذوات الحجة. أسماء الأيام: أولها الأحد، ويجمع على آحاد، وأُحاد ووحود. ثم يوم الإثنين، ويجمع على أثانين. الثلاثاء: يمد، ويُذَكَّر ويؤنث، ويجمع على ثلاثاوات وأثالث. ثم الأربعاء بالمد، ويجمع على أربعاوات وأرابيع. والخميس: يجمع على أخمسة وأخامس، ثم الجمعة -بضم الميم، وإسكانها، وفتحها أيضا -ويجمع على جُمَع وجُمُعات. السبت: مأخوذ من السَّبْت، وهو القطع؛ لانتهاء العدد عنده. وكانت العرب تسمي الأيام أول، ثم أهون، ثم جُبَار، ثم دبار، ثم مؤنس، ثم العروبة، ثم شيار، قال الشاعر -من العرب العرباء العاربة المتقدمين -: أُرَجِّي أن أعيشَ وأن يَومِي *** بأوّل أو بأهون أو جُبَار أو التالي دُبَار فإن أفُْتهُ *** فمؤنس أو عروبةَ أو شيار وقوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية تحرمه، وهو الذي كان عليه جمهورهم، إلا طائفة منهم يقال لهم: "البَسْل"، كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر، تعمقا وتشديدًا. وأما قوله: "ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، [فإنما أضافه إلى مضر، ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان] لا كما كانت تظنه ربيعة من أنَّ رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضان اليوم، فبين، عليه [الصلاة و] السلام، أنه رجب مضر لا رجب ربيعة. وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرم قبل شهر الحج شهر، وهو ذو القعدة؛ لأنهم يقعدون فيه عن القتال، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك، وحرم بعده شهر آخر، وهو المحرم؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب في وسط الحول، لأجل زيارة البيت والاعتمار به، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا. وقوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} أي: هذا هو الشرع المستقيم، من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم، والحَذْو بها على ما سبق في كتاب الله الأول. وقال تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي، وطائفة كثيرة من العلماء، وكذا في حَقِّ من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم. وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، في قوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} قال: في الشهور كلها. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} الآية {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في كلِّهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما، وعَظم حُرُماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم. وقال قتادة في قوله: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء. قال: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذِكْرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فَعَظِّموا ما عظم الله، فإنما تُعَظم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل. وقال الثوري، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن الحنفية: بألا تحرموهن كحرمتهن وقال محمد بن إسحاق: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي: لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حراما، كما فعل أهل الشرك، فإنما النسيء الذي كانوا يصنعون من ذلك، زيادة في الكفر {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [التوبة: 37]. وهذا القول اختيار ابن جرير. وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} أي: جميعكم {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} أي: جميعهم، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام: هل هو منسوخ أو محكم؟ على قولين: أحدهما -وهو الأشهر: أنه منسوخ؛ لأنه تعالى قال هاهنا: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} وأمر بقتال المشركين وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرًا عاما، فلو كان محرما ما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام -وهو ذو القعدة -كما ثبت في الصحيحين: أنه خرج إلى هوازن في شوال، فلما كسرهم واستفاء أموالهم، ورجع فَلُّهم، فلجئوا إلى الطائف -عَمد إلى الطائف فحاصرها أربعين يوما، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام. والقول الآخر: أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام، وأنه لم ينسخ تحريم الحرام، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [الآية] [المائدة: 2] وقال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194] وقال: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [الآية] [التوبة: 50]. وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة، لا أشهر التسيير على أحد القولين. وأما قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فيحتمل أنه منقطع عما قبله، وأنه حكم مستأنف، ويكون من باب التهييج والتحضيض، أي: كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم، كما قال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} [البقرة: 194] وقال تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} الآية [البقرة: 191]، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف، فإنهم هم الذين ابتدءوا القتال، وجمعوا الرجال، ودعوا إلى الحرب والنزال، فعندما قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم، فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعة، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما. وكان ابتداؤه في شهر حلال، ودخل الشهر الحرام، فاستمر فيه أياما، ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، وهذا هو أمر مقرر، وله نظائر كثيرة، والله أعلم. ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك وقد حررنا ذلك في السيرة، والله أعلم.
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله، فإنهم كان فيهم من القوة الغضَبِية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم، فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم -وهو عمير بن قيس المعروف -بجذل الطعان: لَقَدْ عَلمت مَعد أنَّ قَومِي *** كرَامُ النَّاس أنَّ لَهُمْ كِراما ألسْنا الناسئينَ على مَعد *** شُهُورَ الحِل نَجْعلُهَا حَرَاما فأيّ النَّاسِ لَم تُدْرَك بوتْر؟ *** وأيّ النَّاس لم نُعْلك لجاما؟ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} قال: النسيء أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني، كان يوافي الموسم في كل عام، وكان يكنى "أبا ثُمَامة"، فينادي: ألا إن أبا ثمامة لا يُحاب ولا يُعاب، ألا وإن صفر العام الأول حلال. فيحله للناس، فيحرم صفرا عاما، ويحرم المحرم عاما، فذلك قول الله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [إلى قوله: {الكافرين} وقوله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}] يقول: يتركون المحرم عاما، وعاما يحرمونه. وروى العوفي عن ابن عباس نحوه. وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له، فيقول: يا أيها الناس، إني لا أعاب ولا أجاب، ولا مَرَدّ لما أقول، إنا قد حَرَّمنا المحرم، وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: إنا قد حرمنا صفر، وأخرنا المحرم. فهو قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} قال: يعني الأربعة {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} لتأخير هذا الشهر الحرام. وروي عن أبي وائل، والضحاك، وقتادة نحو هذا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية، قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: "القَلَمَّس"، وكان في الجاهلية، وكانوا في الجاهلية لا يغيرُ بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يَمُدُّ إليه يده، فلما كان هو، قال: اخرجوا بنا. قالوا له: هذا المحرم! قال: ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان العام القابل قضينا جعلناهما مُحرَّمين. قال: ففعل ذلك، فلما كان عام قابل قال: لا تغزُوا في صفر، حرموه مع المحرم، هما محرمان. فهذه صفة غريبة في النسيء، وفيها نظر؛ لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط، وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر، فأين هذا من قوله تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ}. وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا، فقال عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية، قال: فرض الله، عز وجل، الحج في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوالا وذا القعدة. وذا الحجة يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، ثم يعودون فيسمون صفر صفر، ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان رمضان، ثم يسمون شوالا رمضان، ثم يسمون ذا القعدة شوالاثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة، ثم عادوا بمثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض". وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا، وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة، وأنى هذا؟ وقد قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} الآية [التوبة: 3]، وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر، فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال تعالى: {يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ} ولا يلزم من فعلهم النسيء هذا الذي ذكره، من دوران السنة عليهم، وحجهم في كل شهر عامين؛ فإن النسيء حاصل بدون هذا، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا، وبعده ربيع وربيع إلى آخر [السنة والسنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في العام القابل يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه، وبعده صفر، وربيع وربيع إلى آخرها] فيحلونه عاما ويحرمونه عاما؛ ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، أي: في تحريم أربعة أشهر من السنة، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم، وتارة ينسئونه إلى صفر، أي: يؤخرونه. وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر"، أي: أن الأمر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها، على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي، لا كما يعتمده جهلة العرب، من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر أنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: "وإنما النسيء من الشيطان، زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما ويحرمونه عاما". فكانوا يحرمون المحرم عاما، ويستحلون صفر ويستحلون المحرم، وهو النسيء. وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب "السيرة" كلامًا جيدًا ومفيدًا حسنًا، فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحل منها ما حرم الله، وحرم منها ما أحل الله، عز وجل، "القَلمَّس"، وهو: حذيفة بن عبد مُدْرِكة فُقَيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خُزَيمة بن مدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعدَّ بن عدنان، ثم قام بعده على ذلك ابنه عَبَّاد ثم من بعد عباد ابنه قَلَع بن عباد، ثم ابنه أمية بن قلع، ثم ابنه عوف بن أمية، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام. فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فقام فيهم خطيبًا، فحرم رجبا، وذا القعدة، وذا الحجة، ويحل المحرم عاما، ويجعل مكانه صفر، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله، فيحل ما حرم الله، يعني: ويحرم ما أحل الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} هذا شروع في عتاب من تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحَمَارَّة القيظ، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ} أي: تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار، {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} أي: ما لكم فعلتم هكذا أرضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة. ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا، ورغب في الآخرة، فقال: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} كما قال الإمام أحمد. حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس، عن المستَوْرِد أخي بني فِهْر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم، فلينظر بما ترجع؟ وأشار بالسبابة. انفرد بإخراجه مسلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحِمْصي، حدثنا الربيع بن رَوْح، حدثنا محمد بن خالد الوهبي، حدثنا زياد -يعني الجصاص -عن أبي عثمان قال: قلت: يا أبا هريرة، سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول: سمعت نبي الله يقول: "إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة: بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة" ثم تلا هذه الآية: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل. وقال [سفيان] الثوري، عن الأعمش في الآية: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ} قال: كزاد الراكب. وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه: لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاةُ قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه، أنظر إليه فلما وضع بين يديه نَظَر إليه فقال: أمَا لي من كَبِير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أفٍّ لك من دار. إن كان كثيرُك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور. ثم توعد تعالى على ترك الجهاد فقال: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك الله عنهم القَطْر فكان عذابهم. {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} أي: لنصرة نبيه وإقامة دينه، كما قال تعالى: {إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]. {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أي: ولا تضروا الله شيئًا بتوليكم عن الجهاد، ونُكُولكم وتثاقلكم عنه، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم. وقد قيل: إن هذه الآية، وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} وقوله {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] إنهن منسوخات بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] رُوي هذا عن ابن عباس، وعِكْرِمة، والحسن، وزيد بن أسلم. ورده ابن جرير وقال: إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد، فتعين عليهم ذلك، فلو تركوه لعوقبوا عليه. وهذا له اتجاه، والله [سبحانه و] تعالى أعلم [بالصواب]
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يقول تعالى: {إِلا تَنْصُرُوهُ} أي: تنصروا رسوله، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه، كما تولى نصره {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ]} أي: عام الهجرة، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه، فخرج منهم هاربًا صحبة صدِّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطَّلَبُ الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيرا نحو المدينة، فجعل أبو بكر، رضي الله عنه، يجزع أن يَطَّلع عليهم أحد، فيخلص إلى الرسول، عليه السلام منهم أذى، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُسَكِّنه ويَثبِّته ويقول: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما"، كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، أنبأنا ثابت، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم، ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. قال: فقال: "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما". أخرجاه في الصحيحين. ولهذا قال تعالى: {فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي: تأييده ونصره عليه، أي: على الرسول في أشهر القولين: وقيل: على أبي بكر، وروي عن ابن عباس وغيره، قالوا: لأن الرسول لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال؛ ولهذا قال: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} أي: الملائكة، {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} قال ابن عباس: يعني {كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا} الشرك و{كَلِمَةُ اللَّهِ} هي: لا إله إلا الله. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَمِيَّة، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ} أي: في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يُضام من لاذ ببابه، واحتمى بالتمسك بخطابه، {حَكِيمٌ} في أقواله وأفعاله.
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال سفيان الثوري، عن أبيه، عن أبي الضحَى مسلم بن صَبيح: هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} أول ما نزل من سورة براءة. وقال معتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حَضْرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرا، فيقول: إني لا آثم، فأنزل الله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} الآية. أمر الله تعالى بالنفير العام مع الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، عام غزوة تبوك، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحَتَّم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المَنْشَط والمَكْرَه والعسر واليسر، فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} وقال علي بن زيد، عن أنس، عن أبي طلحة: كهولا وشَبَابًا ما أسمع الله عَذَر أحدًا، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قُتل. وفي رواية: قرأ أبو طلحة سورة براءة، فأتى على هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فقال: أرى ربنا يستنفرنا شيوخًا وشَبَابًا جهزوني يا بَنِيَّ. فقال بنوه: يرحمك الله، قد غزوت مع رسول الله حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك. فأبى، فركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام، فلم يتغير، فدفنوه بها وهكذا روي عن ابن عباس، وعِكْرِمة وأبي صالح، والحسن البصري، وشَمْر بن عطية، ومقاتل بن حَيَّان، والشعبي وزيد بن أسلم: أنهم قالوا في تفسير هذه الآية: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} قالوا: كهولا وشبابا وكذا قال عِكْرِمة والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغير واحد. وقال مجاهد: شبابا وشيوخا، وأغنياء ومساكين. وكذا قال أبو صالح، وغيره. وقال الحكم بن عُتيبة: مشاغيل وغير مشاغيل. وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} يقول: انفروا نشاطا وغير نشاط. وكذا قال قتادة. وقال ابن أبي نَجِيح، عن مُجاهد: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} قالوا: فإن فينا الثقيل، وذا الحاجة، والضيعة والشغل، والمتيسر به أمر، فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم. وقال الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا: في العسر واليسر. وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية، وهذا اختيار ابن جرير. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: إذا كان النفير إلى دُروب الروم نفرَ الناس إليها خفافا وركبانا، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة. وهذا تفصيل في المسألة. وقد روي عن ابن عباس، ومحمد بن كعب، وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. وقال السدي قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} يقول: غنيًا وفقيرًا، وقويًا وضعيفًا فجاءه رجل يومئذ، زعموا أنه المقداد، وكان عظيما سمينًا، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فأبى فنزلت يومئذ {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله، فقال: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن عُلَيَّة، حدثنا أيوب، عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في آخرين إلا عاما واحدًا قال: وكان أبو أيوب يقول: قال الله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا. وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمر السَّكُوني، حدثنا بَقِيَّة، حدثنا حَرِيز، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال: وافيت المقدام بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فضل عنها من عظمه، يريد الغزو، فقلت له: لقد أعذر الله إليك فقال: أتت علينا سورة "البعوث {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} وبه قال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشَّرْعِبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو، وكان واليا على حمص قِبَل الأفسُوس، إلى الجراجمة فلقيت شيخًا كبيرًا هما، وقد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته، فيمن أغار. فأقبلت إليه فقلت: يا عم، لقد أعذر الله إليك. قال: فرفع حاجبيه فقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافا وثقالا إنه من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر، ولم يعبد إلا الله، عز وجل. ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله، فقال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: هذا خير لكم في الدنيا والآخرة، ولأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنيكم الله أموال عدوكم في الدنيا، مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وتَكفَّل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله نائلا ما نال من أجر أو غنيمة" ولهذا قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]. ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ، عن حميد، عن أنس؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أسلم". قال: أجدني كارها. قال: "أسلم وإن كنت كارها".
|